فصل: تفسير الآيات (135- 147):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فينسم على القلوب التي دبت فيها الجفوة والجفاف، نسمة من الندى والإيناس، والرغبة في إبقاء الصلة الزوجية، والرابطة العائلية.
إن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بواقعها كله. فهو يحاول- بكل وسائله المؤثرة- أن يرفع هذه النفس إلى أعلى مستوى تهيئها له طبيعتها وفطرتها.
ولكنه في الوقت ذاته لا يتجاهل حدود هذه الطبيعة والفطرة؛ ولا يحاول أن يقسرها على ما ليس في طاقتها؛ ولا يقول للناس: اضربوا رؤوسكم في الحائط فأنا أريد منكم كذا والسلام! سواء كنتم تستطيعونه أو لا تستطيعونه!
إنه لا يهتف للنفس البشرية لتبقى على ضعفها وقصورها؛ ولا ينشد لها أناشيد التمجيد وهي تتلبط في الوحل، وتتمرغ في الطين- بحجة أن هذا واقع هذه النفس! ولكنه كذلك لا يعلقها من رقبتها في حبل بالملأ الأعلى، ويدعها تتأرجح في الهواء؛ لأن قدميها غير مستقرتين على الأرض. بحجة الرفعة والتسامي!
إنه الوسط.. إنه الفطرة.. إنه المثالية الواقعية. أو الواقعية المثالية.. إنه يتعامل مع الإنسان، بما هو إنسان. والإنسان مخلوق عجيب. هو وحده الذي يضع قدميه على الأرض؛ وينطلق بروحه إلى السماء. في لحظة واحدة لا تفارق فيها روحه جسده؛ ولا ينفصل إلى جسد على الأرض وروح في السماء!
وهو هنا- في هذا الحكم- يتعامل مع هذا الإنسان. وينص على خصيصة من خصائصه في هذا المجال:
{وأحضرت الأنفس الشح}.
أي أن الشح حاضر دائماً في الأنفس. وهو دائماً قائم فيها. الشح بأنواعه. الشح بالمال. والشح بالمشاعر. وقد تترسب في حياة الزوجين- أو تعرض- أسباب تستثير هذا الشح في نفس الزوج تجاه زوجته. فيكون تنازلها له عن شيء من مؤخر صداقها أو من نفقتها- إرضاء لهذا الشح بالمال، تستبقي معه عقدة النكاح! وقد يكون تنازلها عن ليلتها- إن كانت له زوجة أخرى أثيرة لديه- والأولى لم تعد فيها حيوية أو جاذبية إرضاء لهذا الشح بالمشاعر، تستبقي معه عقدة النكاح! والأمر على كل حال متروك في هذا للزوجة وتقديرها لما تراه مصلحة لها.. لا يلزمها المنهج الرباني بشيء؛ ولكنه فقط يجيز لها التصرف، ويمنحها حرية النظر والتدبر في أمرها وفق ما تراه.
وفي الوقت الذي يتعامل المنهج الإسلامي مع طبيعة الشح هذه، لا يقف عندها باعتبارها كل جوانب النفس البشرية. بل هو يهتف لها هتافاً آخر، ويعزف لها نغمة أخرى:
{وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً}.
فالإحسان والتقوى هما مناط الأمر في النهاية. ولن يضيع منهما شيء على صاحبه، فإن الله خبير بما تعمله كل نفس؛ خبير ببواعثه وكوامنه.. والهتاف للنفس المؤمنة بالإحسان والتقوى، والنداء لها باسم الله الخبير بما تعمل، هتاف مؤثر، ونداء مستجاب.. بل هو وحده الهتاف المؤثر والنداء المستجاب.
ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد، وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية، بالواقعية المثالية، أو المثالية الواقعية، ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد:
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة.
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعاً حكيماً}.
إن الله الذي فطر النفس البشرية، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها. ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاماً. خطاماً لينظم حركتها فقط، لا ليعدمها ويقتلها!
من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات. فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات. وهذا ميل لا حيلة له فيه؛ ولا يملك محوه أو قتله.. فماذا؟ إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه؛ ولا يجعل هذا إثماً يعاقبه عليه؛ فيدعه موزعاً بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء- ولو حرصوا- لأن الأمر خارج عن إرادتهم.. ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم. هناك العدل في المعاملة. العدل في القسمة. العدل في النفقة. العدل في الحقوق الزوجية كلها، حتى الابتسامة في الوجه، والكلمة الطيبة باللسان.. وهذا ما هم مطالبون به. هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل. لينظمه لا ليقتله!
{فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة}..
فهذا هو المنهي عنه. الميل في المعاملة الظاهرة، والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة.. ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة؛ والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان.
{وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً}.
ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله. وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات. وبواقعيتها المثالية، أو مثاليتها الواقعية، التي تضع قدميها على الأرض، وترف بروحها إلى السماء، دون تناقض ودون انفصام.
لأن الإسلام كذلك.. كان نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال؛ فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نمواً متوازناً متكاملاً في حدود فطرة الإنسان.
وكان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقسم بين نسائه فيما يملك، ويعدل في هذه القسمة، لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض. وأن هذا خارج عما يملك. فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك. فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب أخرجه أبو داود..
فأما حين تجف القلوب، فلا تطيق هذه الصلة؛ ولا يبقى في نفوس الزوجين ما تستقيم معه الحياة، فالتفرق إذن خير. لأن الإسلام لا يمسك الأزواج بالسلاسل والحبال، ولا بالقيود والأغلال؛ إنما يمسكهم بالمودة والرحمة؛ أو بالواجب والتجمل. فإذا بلغ الحال أن لا تبلغ هذه الوسائل كلها علاج القلوب المتنافرة، فإنه لا يحكم عليها أن تقيم في سجن من الكراهية والنفرة؛ أو في رباط ظاهري وانفصام حقيقي!
{وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته.
وكان الله واسعاً حكيماً}..
فالله يعد كلاً منهما أن يغنيه من فضله هو، ومما عنده هو؛ وهو- سبحانه- يسع عباده ويوسع عليهم بما يشاء في حدود حكمته وعلمه بما يصلح لكل حال.
إن دراسة هذا المنهج، وهو يعالج مشاعر النفوس، وكوامن الطباع، وأوضاع الحياة في واقعيتها الكلية.. تكشف عن عجب لا ينقضي، من تنكر الناس لهذا المنهج.. هذا المنهج الميسر، الموضوع للبشر، الذي يقود خطاهم من السفح الهابط، في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة؛ وفق فطرتهم واستعدادتهم؛ ولا يفرض عليهم أمراً من الارتفاع والتسامي، إلا وله وتر في فطرتهم يوقع عليه؛ وله استعداد في طبيعتهم يستجيشه؛ وله جذر في تكوينهم يستنبته.. ثم هو يبلغ بهم- بعد هذا كله- إلى ما لا يبلغه بهم منهج آخر.. في واقعية مثالية. أو مثالية واقعية.. هي صورة طبق الأصل من تكوين هذا الكائن الفريد.
ولأن هذه الأحكام الخاصة بتنظيم الحياة الزوجية، قطاع من المنهج الرباني لتنظيم الحياة كلها؛ ولأن هذا المنهج بجملته قطاع من الناموس الكوني، الذي أراده الله للكون كله، فهو يتوافق مع فطرة الله للكون، وفطرة الله للإنسان، الذي يعيش في هذا الكون.. لأن هذه هي الحقيقة العميقة في هذا المنهج الشامل الكبير، يجيء في سياق السورة بعد الأحكام الخاصة بتنظيم الأسرة، ما يربطها بالنظام الكوني كله؛ وسلطان الله في الكون كله، وملكية الله للكون كله. ووحدة الوصية التي وصى الله بها الناس في كتبه كلها؛ وثواب الدنيا وثواب الآخرة.. وهي القواعد التي يقوم عليها المنهج كله. قواعد الحق والعدل والتقوى:
{ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً}.
ويكثر في القرآن التعقيب على الأحكام، وعلى الأوامر والنواهي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض؛ أو بأن لله ملك السماوات والأرض. فالأمران متلازمان في الحقيقة. فالمالك هو صاحب السلطان في ملكه؛ وهو صاحب حق التشريع لمن يحتويهم هذا الملك. والله وحده هو المالك، ومن ثم فهو وحده صاحب السلطان الذي يشرع به للناس. فالأمران متلازمان.
كذلك يبرز هنا من وصية الله- سبحانه- لكل من أنزل عليهم كتاباً.
الوصية بالتقوى، وذلك بعد تعيين من له ملكية السماوات والأرض، ومن له حق الوصية في ملكه:
{ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
فصاحب السلطان الحقيقي هو الذي يُخشى ويُخاف. وتقوى الله هي الكفيلة بصلاح القلوب، وحرصها على منهجه في كل جزئياته.
كذلك يبين لمن يكفرون ضآلة شأنهم في ملك الله؛ وهو أن أمرهم عليه سبحانه؛ وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم:
{وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً}..
فهو- سبحانه- إذ يوصيهم بتقواه، لا يعنيه في شيء ولا يضره في شيء ألا يسمعوا الوصية، وأن يكفروا. فإن كفرهم لن ينقص من ملكه شيئاً.. {فإن لله ما في السماوات وما في الأرض} وهو قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوماً غيرهم، إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم، ولصلاح حالهم.
وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله؛ وتكريمه على كل ما في الأرض، وكل من في الكون.. بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به، ويعتو وتجبر، ويدعي خصائص الألوهية بغير حق.. فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي، وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك..
ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها، إلى أن فضل الله أوسع.. فعنده ثواب الدنيا والآخرة.. وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا، أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها؛ وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة.
{من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً}..
وإنه ليكون من الحمق، كما يكون من سقوط الهمة، أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معاً؛ وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعاً- وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي- ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه؛ ويعيش كالحيوان والدواب والهوام؛ بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء. وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض؛ ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى!
وأخيراً فإن هذه التعقيبات المتنوعة- كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة- تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام. حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى؛ ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعاً؛ وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته؛ ويقيمون شريعته.. وهو تعقيب خطير. يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله. وفي منهجه للحياة..

.تفسير الآيات (135- 147):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
هذا الدرس حلقة من سلسلة التربية المنهجية، التي تولتها يد الرعاية الإلهية؛ لإخراج الأمة التي قال الله فيها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وهي حلقة من المنهج الثابت المطرد الخطو، المرسوم الأهداف لمعالجة النفس البشرية بالدواء الذي صنعه صانع هذه النفس- سبحانه- الخبير بدروبها ومنحنياتها، البصير بطبيعتها وحقيقتها، العليم بضروراتها وأشواقها، وبمقدراتها وطاقاتها..
وهذه الحلقة كما ترسم قواعد المنهج واتجاهاته الثابتة، الموضوعة للناس جميعاً، في أجيالهم كلها، لترفعهم من سفوح الجاهلية- حسب مكانهم في الدرج- وتعرج بهم في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة.. هي كذلك- في الوقت ذاته- ترتسم فيها حال الجماعة المسلمة الأولى، المخاطبة بهذا القرآن؛ وتبرز من بين السطور صورة لهذة الجماعة إذ ذاك- كما هي- بكل ما فيها من بشرية. وبكل ما في بشريتها من ضعف وقوة؛ ومن رواسب جاهلية ومشاعر فطرية.. وتبرز كذلك طريقة المنهج في علاجها وتقويتها وتثبيتها على الحق الذي تمثله؛ بكل ما في وقفتها مع الحق من جهد وتضحية.
ويبدأ الدرس بنداء الجماعة المؤمنة إلى النهوض بتكاليف دورها، في إقامة العدل بين الناس على النحو الفريد الذي لم يقم إلا على يد هذه الجماعة- العدل الذي تتعامل فيه الجماعة مع الله مباشرة؛ متخلصة من كل عاطفة أو هوى أو مصلحة- بما في ذلك ما يسمى مصلحة الجماعة أو الأمة أو الدولة!- متجردة من كل اعتبار آخر غير تقوى الله ومرضاته.. العدل الذي رأينا نموذجاً منه في الدرس العملي الذي ألقاه الله- سبحانه- بذاته العلية على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الجماعة المسلمة في حادث اليهودي الذي سلف ذكره.
يبدأ الدرس بنداء الذين آمنوا ليقيموا هذا العدل.. بصورته هذه.. ومنزل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة، التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو. وفي النفس البشرية ضعفها المعروف، وعواطفها تجاه ذاتها وتجاه الأقارب؛ وتجاه الضعاف من المتقاضين وتجاه الأقوياء أيضاً. تجاه الوالدين والأقربين، وتجاه الفقير والغني؛ تجاه المودة وتجاه الشنآن.. ويعلم أن التجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق. جهاد للصعود إلى هذه القمة على سفوح ملساء! لا تتعلق فيها النفس بشيء إلا بحبل الله.